الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخطيب الشربيني: ثم كرر الوعظ عليهم بقوله: {ويا قوم ما} أي: أي شيء من الحظوظ والمصالح {لي} في أني {أدعوكم إلى النجاة} والجنة شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافًا بحقكم {وتدعونني إلى النار} والهلاك بالكفر فالآية من الاحتباك، ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولًا دليلًا على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانيًا والنار ثانيًا دليلًا على حذف الجنة أولًا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بفتح ياء مالي والباقون بسكونها واتفقوا على سكون الياء من تدعونني.ولما أخبر ذلك المؤمن بقلة إنصافهم إجمالًا بينه بقوله: {تدعونني} أي: توقعون دعائي إلى معبوداتكم {لأكفر} أي: لأجل أن أكفر {بالله} الذي له مجامع القهر والعز والعظمة والكبرياء {وأشرك به} أي: أجعل له شريكًا {ما ليس لي به} أي: بربوبيته {علم} أي: نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعًا من الشرك، فالمراد بنفي العلم نفي الإله كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكًا للإله.ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله: {وأنا أدعوكم} أي: أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده {إلى العزيز} أي: البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهًا وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة، وقرأ نافع وأنا بالمد بعد النون، وقالون يمد ويقصر وورش بالمد لا غير والباقون بغير مد.وقوله: {الغفار} أي: الذي يتكرر منه دائمًا محو الذنوب عينًا وأثرًا إشارة إلى أنهم يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله تعالى بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن الإله العالم وإن كان عزيزًا لا يغلب قادرًا لا يعارض لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة وقوله: {لا جرم} رد لما دعوه إليه وجرم فعل بمعنى حق وفاعله {أنما} أي: الذي {تدعونني إليه} من هذه الأنداد {ليس له دعوة} بوجه من الوجوه فإنه لا إدراك له هذا إن أريد ما لا يعقل وإن أريد شيء مما يعقل فلا دعوة له مقبولة بوجه فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة {في الدنيا} أي: التي هي محل الأسباب الظاهرة {ولا في الآخرة} أي: ليس له استجابة دعوة فيهما فسمى استجابة الدعوة دعوة إطلاقًا لاسم أحد المتضايفين على الآخر كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) وكقولهم: كما تدين تدان، وقيل: ليس له دعوة أي: عبادة في الدنيا لأن الأوثان لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها ثم قال: {وأن مردنا} أي: مرجعنا {إلى الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال فيجازي كل أحد بما يستحقه {وأن المسرفين} أي: المجاوزين للحدود الغريقين في هذا الوصف، قال قتادة: وهم المشركون لقوله تعالى: {هم} أي: خاصة {أصحاب النار} أي: ملازموها، وعن مجاهد: هم السفاكون للدماء بغير حلها، وقيل: الذين غلب شرهم هم المسرفون.ولما بالغ هذا المؤمن في هذا الشأن ختم كلامه بخاتمة لطيفة هي قوله: {فستذكرون} أي: قطعًا بوعد لا خلف فيه مع القرب {ما أقول لكم} حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي أو لم تقبلوه.ولما خوفهم بذلك توعدوه وخوفوه بالقتل فعوّل في دفع تخويفهم وكبرهم ومكرهم على الله تعالى بقوله: {وأفوض} أي: أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله {أمري} أي: فيما تمكرونه بي {إلى الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلمًا فهو يحمي منكم من شاء وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام حين خوفه فرعون بالقتل فرجع موسى عليه السلام في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال: إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة علل ذلك بقوله: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {بصير} أي: بالغ العلم {بالعباد} ظاهرًا وباطنًا فيعلم من يستحق النصرة فينصره لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة، قال مقاتل: فلما قال هذه الكلمات قصدوا قتله.{فوقاه الله} أي: حصل له وقاية تنجيه منهم جزاء على تفويضه {سيئات} أي: شدائد {ما مكروا} دينًا ودنيا فنجاه مع موسى عليه السلام، قال قتادة: وكان قبطيًا تصديقًا لوعده سبحانه بقوله تعالى: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص: 35).ولما كان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله قال تعالى: {وحاق} أي: نزل محيطًا بعد إحاطة الإغراق {بآل فرعون} أي: فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم هذا إن قلنا أن الآل مشترك بين الشخص وأتباعه وإن لم نقل ذلك فالإحاقة بفرعون من باب أولى لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه {سوء العذاب} أي: الغرق في الدنيا والنار في الآخرة، فإن قيل: قوله تعالى: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} معناه: أنه رجع إليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا، فإذا فسر سوء العذاب بالغرق في الدنيا ونار جهنم في الآخرة لم يكن مكرهم راجعًا إليهم لأنهم لا يعذبون بذلك؟أجيب: بأنهم هموا بشر فأصابهم ما وقع عليه اسم السوء ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه وقوله تعالى: {النار} في إعرابه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه بدل من سوء العذاب، قاله الزجاج، ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو أي: سوء العذاب النار لأنه جواب لسؤال مقدر وقوله تعالى: {يعرضون} على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالًا من النار وأن يكون حالًا من آل فرعون، ثالثها: أنه مبتدأ وخبره يعرضون {عليها غدوًا وعشيًا} أي: صباحًا ومساء، قال ابن مسعود: أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال: يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة. وقال قتادة: تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيًا ما دامت الدنيا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة».ثم أخبر الله تعالى عن مستقر آل فرعون يوم القيامة بقوله سبحانه وتعالى: {ويوم تقوم الساعة} يقال لهم: {أدخلوا آل} أي: يا آل {فرعون} أي: هو بنفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به {أشد العذاب} وهو عذاب جهنم، أجارنا الله تعالى نحن وأحباءنا منها فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم، وهذه الآية نص على إثبات عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الخاء وصلًا وابتداء على أمر الملائكة بإدخالهم النار، والباقون بوصل الهمزة وضم الخاء وصلًا في الابتداء بضم الهمزة واختلف في العامل في قوله تعالى: {وإذا} على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه معطوف على غدوًا فيكون معمولًا ليعرضون على النار في هذه الأوقات كلها، قاله أبو البقاء، ثانيها: أنه معطوف على قوله إذا القلوب لدى الحناجر قاله الطبري ونظر فيه لبعد ما بينهما، وثالثها: أنه منصوب بإضمار اذكر أي: واذكر يا أشرف الخلق لقومك إذ {يتحاجون} أي: الكفار {في النار} أي: يتخاصمون فيها أتباعهم ورؤساؤهم مما لا يغنيهم {فيقول الضعفاء} أي: الأتباع {للذين استكبروا} أي: طلبوا أن يكونوا كبراءهم الرؤساء {أنا كنا لكم} أي: دون غيركم {تبعًا} أي: أتباعًا فتكبرتم على الناس بنا {فهل أنتم} أيها الكبراء {مغنون} أي: كافون ومجزئون وحاملون {عنا نصيبًا من النار}.تنبيه:تبعًا اسم جمع لتابع ونحوه خادم وخدم، قال البغوي: والتبع يكون واحدًا وجمعًا في قول أهل البصرة واحده تابع، وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع، وقيل: إنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي: تابعين، وقيل: مصدر ولكنه على حذف مضاف أي: ذوي تبع ونصيبًا منصوب بفعل مقدر يدل عليه قولهم مغنون وتقديره: هل أنتم دافعون عنا نصيبًا، وقيل: منصوب على المصدر، قال البقاعي: كما كان شيئًا كذلك ألا ترى إلى قوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا} في موضع غني فكذلك نصيبًا ومن النار صفة لنصيبًا.{قال الذين استكبروا} أي: من شدة ما هم فيه {إنا كل} أي: نحن وأنتم {فيها} فكيف نغني عنكم ولو قدرنا أغنينا عن أنفسنا {إن الله} أي: المحيط بأوصاف الكمال {قد حكم} بالعدل {بين العباد} أي: فأدخل أهل الجنة دارهم وأهل النار دارهم فلا يغني أحد عن أحد شيئًا فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم كما حكى الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {وقال الذين في النار} أي: جميعًا الأتباع والمتبوعون {لخزنة جهنم} أي: لخزنتها فوضع جهنم موضع المضمر للتهويل أو لبيان محلهم فيها، قال البيضاوي: ويحتمل أن تكون جهنم أبعد دركاتها من قولهم بئر جهنام أي: بكسر الجيم والهاء وتشديد النون بعيد القعر، وقال بعض أهل اللغة: هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك: لغلظ عذابها وهي عجمية منعت من الصرف للتعريف والعجمة، وقيل: عربية ومنعت من الصرف للتعريف والتأنيث {ادعوا ربكم} أي: المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألمًا من النار {يخفف عنا يومًا} أي: قدر يوم {من العذاب} أي: شيئًا، فيومًا ظرف ليخفف ومفعول يخفف محذوف أي: يخفف عنا شيئًا من العذاب في يوم ويجوز أن يكون من العذاب هو المفعول ليخفف ومن تبعيضية ويومًا ظرفًا، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما لا في كل يوم ولا في يوم معين.{قالوا} أي: الخزنة لهم {أولم تك تأتيكم} على سبيل التجدد شيئًا في أثر شيء {رسلكم} أي: الذين هم منكم وأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم لأن الجنس إلى الجنس أميل والإنسان من مثله أقبل {بالبينات} أي: التي لا شيء أوضح منها أرادوا بذلك إلزامهم الحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها وكذلك رسلنا ورسلهم {قالوا} أي: الكفار {بلى} أي: أتونا كذلك {قالوا} أي: الخزنة لهم {فادعوا} أي: أنتم فإنا لا نشفع لكافر {وما دعاء الكافرين} أي: الذين ستروا مرأى عقولهم عن أنوار الحق {إلا في ضلال} أي: ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئًا في الدنيا حصده في الآخرة والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا وفي هذا إقناطهم عن الإجابة.ولما ذكر تعالى وقاية موسى عليه السلام وذلك المؤمن من مكر فرعون وقومه منّ بقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {لننصر رسلنا} أي: على من عاداهم {والذين آمنوا} أي: اتسموا بهذا الوصف {في الحياة الدنيا} أي: بإلزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة وإن غلبوا في بعض الأحيان، فإن العاقبة تكون لهم ولو بأن يقيض الله تعالى لأعدائهم من يقتص منهم ولو بعد حين وقل أن يتمكن أعداؤهم من كل ما يريدون منهم {ويوم يقوم الأشهاد} وهو جمع شاهد كصاحب وأصحاب والمراد بهم: من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} (النساء: 41) وأما المؤمنون فقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143).وقوله تعالى: {يوم} بدل من يوم قبله أو بيان له أو نصب بإضمار أعني يوم {لا تنفع الظالمين} أي: الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير موضعها {معذرتهم} أي: اعتذارهم، فإن قيل: هذا يدل على أنهم يذكرون الأعذار ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف هذا مع قوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 36)؟أجيب: بأن هذا لا يدل على أنهم ذكروا الاعتذار بل ليس فيه إلا أن ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضًا يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر، وقرأ نافع والكوفيون بالياء التحتية والباقون بتاء الخطاب {ولهم} أي: خاصة {اللعنة} أي: البعد عن كل خير مع الإهانة بكل ضير {ولهم} أي: خاصة {سوء الدار} أي: الآخرة أي: أشد عذابها.
|